قصة أطلِق سراحَ أبي وسأجعلك تمشي

قصة أطلِق سراحَ أبي وسأجعلك تمشي

كانت القاعة ما تزال تهتزّ بالأصوات المتداخلة، لكن الطفلة وقفت كأنها وحدها في عالم آخر. عينها اليسرى ترتجف من الخوف، أما اليمنى فكانت مشتعلة بعزم حقيقي لم يفهمه أحد بعد. المحامي المكلّف بالدفاع عن والدها حاول سحبها للخلف، لكنها ثبتت مكانها بقوة أكبر مما يتوقعه أي رجل بالغ. في تلك اللحظة، بدا الزمن وكأنه يتباطأ، والعيون كلّها صارت تراقب القاضي والتر، الذي تحوّل وجهه من الصرامة إلى ارتباك واضح. شيء ما في كلمات الطفلة أعاد فتح جرح كان قد أغلقه بالقوة منذ سنوات طويلة، وبدأ صداه يرنّ بداخله بلا رحمة.

في الصف الأول، همست امرأة عجوز لجارتها بأن القاضي تغيّر لونه، لكن الهمس ما لبث أن امتد إلى الصفوف الخلفية. الصحفيون الذين كانوا مستعدين لنهش القضية نهشًا توقفوا عن الكتابة، كأن ثقل اللحظة أجبرهم على الصمت. حتى الشرطي الواقف بجانب القاعة وضع يده على مسدسه دون وعي، ليس لأنه شعر بالخطر، بل لأن الجو نفسه صار لا يُفسَّر. أما رودريغو، الأب المتهم، فكان يحدّق بابنته من خلف القضبان بعينين تذوبان ألمًا، وهو يشعر بأنه على وشك فقدان شيء أهم من حريته بكثير.

القاضي والتر حاول استعادة سيطرته، دفع كرسيه المتحرك للخلف قليلًا ثم للأمام، وكأنه يختبر توازنه. لكنه لم يستطع تجاهل الكلمات التي ألقتها الطفلة كقنبلة وسط القاعة. أراد أن يسألها ماذا تعني بقولها إنها ستجعله يمشي، لكنه وجد حلقه يضيق كأنه يُخنق. ذكريات ذلك اليوم المشؤوم الذي انقلبت فيه سيارته وتركته بلا قدمين بدأت تعود، لكنه لم يفهم كيف لهذه الصغيرة أن تعرف عنه شيئًا لم يعلنه للعامة قط. ارتفعت همهمة متوترة في أرجاء القاعة، وكأن الجميع يترقب شيئًا يفوق المنطق.

الطفلة نظرت إليه بثبات، وكأنها الوحيدة التي تعرف ما سيحدث لاحقًا. رفعت يدها الصغيرة ببطء، وأشارت نحوه مباشرة دون خوف، وصوتها خرج أقوى مما بدا عليه جسدها الهزيل. أحس القاضي بشيء غريب يمرّ في رجليه، إحساس لم يشعر به منذ الحادث: وخز خفيف، ثم حرقة، ثم رعشة قصيرة لم يقدر على تفسيرها. سقط أحد الأقلام من مكتبه دون قصد، لكن القاعة لم تنتبه للقلم… بل انتبهت لوجهه الذي صار يشحب أكثر مع كل ثانية. الطفلة كانت تنظر إليه وكأنها تنتظر منه اعترافًا قبل أن يبدأ كل شيء بالتكشف.

تابع في الصفحة الثانية، فاللحظة التي غيّرت مصير القاضي لم تكن سوى البداية…