قصة أطلِق سراحَ أبي وسأجعلك تمشي

قصة أطلِق سراحَ أبي وسأجعلك تمشي

حين هدأ الارتباك قليلًا، طلب القاضي والتر من الشرطة أن تترك الطفلة تتقدم نحوه. بدا صوته مختلفًا، أقل صلابة وأكثر هشاشة، كأن الكلمات تخرج من رجل يولد من جديد. تقدمت الطفلة بخطوات ثابتة، فيما القاعة كلها انقسمت بين مصدق ومكذّب. وقفت أمام المنصة مباشرة، ورفعت رأسها نحوه. كان ينظر إليها بعيون رجل فقد توازنه أمام حقيقة لا يفهمها. سألها بصوت مرتجف: «كيف… فعلتِ هذا؟» فردّت بهدوء غير طبيعي: «مش أنا… أمّي.» اشتعلت القاعة من جديد، وبدأ الجميع يتساءل: أين الأم؟ وما علاقتها بهذا كله؟ الطفلة مسحت دمعتها وقالت: «أمّي كانت ممرّضة… وهي اللي كانت معاك يوم الحادث.»

تعلّق قلب القاضي حين سمع ذلك الاسم الذي حاول نسيانه. كانت هناك ممرضة بالفعل بقيت معه طوال فترة علاجه، امرأة لطيفة كانت تؤمن بأن حالته قابلة للتحسن، لكنه لم يصدقها. قبل سنة من وفاتها، أخبرته بأن الله سيبعث له علامة في الوقت المناسب، لكنه سخر منها واختفى. الآن، تقف أمامه طفلة تحمل نفس الابتسامة ونفس الهدوء. الطفلة أكملت كلامها: «ماما قالت لي… يوم ما تحتاج لرجليك، هتعرف إن ربنا ما خذلكش.» أغلقت القاعة أفواهها، وكأن الجميع تلقّى ضربة روحية أوقفت كل الأصوات. والتر شعر بأن الأرض تهتزّ تحته، ليس من الخوف، بل من إدراكٍ ثقيل يدخل قلبه للمرة الأولى.

اقترب أكثر من حافة كرسيه، ثم وضع يديه على مقابضه، واستجمع كل قوته ليجرّب الوقوف. كانت لحظة ثقيلة، كأن الهواء نفسه توقف ليستمع. ثقل السنين تراكم على كتفيه، ولكنه لم يستسلم. رفع جسده ببطء، حتى بدأ ظهره يستقيم للمرة الأولى منذ سنوات. صرخة دهشة عمّت القاعة حين رفع قدميه عن مسند الكرسي ووقف فعليًا، مستندًا على الطاولة أمامه. سقطت الأوراق من فوق المنصة، وغطّى صوته المبحوح الضوضاء وهو ينظر إلى ساقيه المرتعشتين: «أنا… واقف؟» الطفلة ابتسمت وبكت في اللحظة نفسها، كأنها تشاهد وعدًا تحقق أمام عينيها.

الجميع تجمّد في مكانه، حتى والد الطفلة بكى داخل القفص الحديدي دون أن يدرك ذلك. القاضي والتر رفع رأسه ونظر للقاعة التي صارت في صدمة جماعية. ثم استدار ببطء نحو رودريغو، الرجل المتهم الذي كاد يُزجّ به في السجن ظلمًا، وقال بصوت قوي للمرة الأولى منذ بداية الجلسة: «القضية… تُعاد من البداية.» صرخ المحامون، واندفع الصحفيون، لكن والتر لم يبالِ. ترك كرسيه خلفه، واقترب خطوة، ثم خطوة أخرى، حتى شعر بثقله الحقيقي لأول مرة. الطفلة مسحت دموعها، ثم قالت بصوت خافت يسمعه وحده: «قلت لك… هخليك تمشي.»

وفي تلك اللحظة، عرف والتر أن حياته التي عاشها في الظلام قد انتهت، وأن هذه الطفلة لم تكن مجرد شاهدة… بل كانت علامة. علامة جاءت في اللحظة التي احتاج فيها قلبه قبل جسده إلى الشفاء. كانت المعجزة أمامه، وكانت العدالة أمامه، وكانت البداية الجديدة تقف على بعد خطوة واحدة فقط.