عاد الأب الثري ليجد خادمة بيته تحمي ابنته الكفيفة بجسدها… والحقيقة التي اكتشفها بعد ذلك كسرت قلبه
لم تكن تمسكها فقط خوفًا، بل وكأنها تقول بجسدها الصغير ما عجزت عن قوله بالكلمات:
هنا الأمان… هنا من يفهمني… هنا من لا يتركني وحدي في الظلام.
وفي تلك اللحظة، شعر إدوارد بشيءٍ داخله يتصدّع.
لم يكن انهيارًا صاخبًا.
لم يصرخ.
لم يتحرّك.
بل انكسارًا صامتًا… عميقًا… مؤلمًا.
انكسار رجلٍ أدرك فجأة أن ابنته، التي ظنّ أنه يحميها بكل ما يملك، كانت تحتمي بغيره.
بعد أن غادر رجال الشرطة والمسعفون، وبعد أن خفتت الأصوات، وساد البيت هدوء ثقيل لا يُحتمل، اصطحب إدوارد ليلي برفق إلى غرفة الضيوف. تحدّث إليها بصوتٍ هادئ، وأخبرها أن كل شيء أصبح بخير، وأنها في أمان.
هزّت رأسها الصغيرة موافقة، لكن يديها ظلّتا تبحثان عن ماريا حتى اللحظة الأخيرة.
وحين أُغلِق باب الغرفة خلفها، بقي إدوارد واقفًا في الممرّ للحظات، كأنه غير قادر على الحركة.
ثم التفت إلى ماريا، وقال بصوتٍ منخفض:
«هل يمكنكِ أن تتحدّثي معي قليلًا؟»
في المطبخ، وتحت ضوءٍ خافت يتدلّى من السقف، جلسا متقابلين. هناك، في ذلك المكان البسيط، بعيدًا عن الصالات الفخمة وغرف الاجتماعات، رأى إدوارد في عيني ماريا شيئًا لم يره طوال سنوات خدمتها.
لم يكن تعبًا فقط.
ولا إرهاقًا.
كان خوفًا.
لكن ليس خوفًا منه.
بل خوفًا مما ستقوله.
تنفّست ماريا بعمق، وكأنها تجمع شجاعة كانت تؤجّل استخدامها منذ وقتٍ طويل، ثم قالت بصوتٍ متردّد:
«سيدي… ليلي ليست بخير كما تظن».
تجمّد إدوارد في مكانه.
وأكملت، ببطءٍ وألم، وكأن كل كلمة تخرج منها تكلّفها الكثير:
«هي تعاني أكثر مما تتخيّل. كوابيس متكرّرة. نوبات هلع في منتصف الليل. تستيقظ وهي تناديك… ثم تصمت فجأة».
رفع رأسه بقلق: «لماذا لم تخبريني؟»
قالت بصوتٍ خافت:
«لأنها كانت تطلب مني ألّا أفعل».
ثم أضافت، وعيناها تلمعان:
«كانت تسألني كل ليلة متى ستعود. ليس لأنها تحتاج أن تضمّها… بل لأنها بدأت تعتقد أنك لا تريد رؤيتها».
ابتلع إدوارد ريقه بصعوبة.
وتابعت ماريا:
«كانت تظن أنك تتجنّبها لأن فقدان بصرها يزعجك… لأنها لم تعد كما كنتَ تحلم».
همس إدوارد، وكأن الكلمات تخونه:
«لم تقل لي ذلك أبدًا».
ابتسمت ماريا بحزن، وقالت برفق:
«لن تقول لك. أنت والدها. لا تريد أن تكون عبئًا عليك. لكنها تقول لي… لأنني هنا. لأنني أجلس معها حين تبكي. لأنني أمسك يدها حين تشعر أن العالم مظلم ولا تعرف كيف تمشي فيه».
توقّفت لحظة، ثم أضافت بصوتٍ مكسور:
«ولأنها تعتقد أن وقتك أثمن من دموعها».
شعر إدوارد وكأن الهواء قد خرج من صدره.
ثم نهضت ماريا بهدوء، واتجهت إلى أحد الأدراج، وأخرجت ظرفًا قديمًا، أطرافه مهترئة قليلًا من كثرة ما فُتح وأُغلق… ثم ناولته له.
قالت:
«هذه رسالة… من والدتها».
ارتجفت يداه.
«غريس؟»
أومأت ماريا.
«كتبتها قبل وفاتها. وطلبت مني أن أحتفظ بها… وأن أعطيك إيّاها حين تصبح مستعدًا».
فتح إدوارد الرسالة ببطء.
كان خط غريس واضحًا… دافئًا… مألوفًا.
قرأ.
وشعر أن الكلمات تخترق قلبه دون رحمة.
كانت الرسالة تقول له إن ليلي لم يكن ذنبها المرض.
وإنها لم تكن ذنبه أيضًا.
كانت تقول له إنها رأت كيف يحمل الذنب كجلدٍ ثانٍ، وكيف يهرب من الألم بالعمل والسفر.
وأنها تفهمه… لكنها تخاف على ليلي.
«ليلي لا تحتاج مالك، ولا حلولك، ولا صفقاتك…»
«تحتاجك أنت».
«اجلس معها… تحدّث إليها… كن معها في ظلامها. ستجد أن نورها أقوى مما تتخيّل».
لم يستطع إكمال القراءة.
سقطت دموعه على الورق، فشوّهت بعض الحروف، وكأن الألم نفسه ترك أثره.
حين رفع رأسه، كانت ماريا قد أشاحت بنظرها احترامًا لضعفه.
في تلك الليلة، وبعد ساعات من الصمت والتفكير، توجّه إدوارد إلى غرفة ليلي.
طرق الباب برفق.
«بابا؟» جاءه صوتها الصغير.
دخل، وجلس إلى جوارها على السرير، ومدّ يده دون أن يتكلّم.
بحثت أصابعها عنه… ثم تشبّثت بيده.
قال لها بصوتٍ مبحوح:
«أنا هنا».
لم تكن جملة عابرة هذه المرّة.
كانت وعدًا.
قالت بصوتٍ خافت:
«كنت أظن أنك لا تحب الجلوس معي لأنني لا أرى».
انكسر صوته وهو يجيبها:
«أنا أخاف… أخاف أن أفقدك. وليس من عينيك».
اقتربت منه، وأسندت رأسها إلى صدره.
وللمرة الأولى منذ سنوات طويلة، بقي.
لم ينهض.
لم ينظر إلى ساعته.
لم يفكّر في عمل.
ومنذ تلك الليلة، تغيّر كل شيء.
أدرك إدوارد حقيقة لن ينساها ما دام حيًا:
أن من حمى ابنته حقًا لم يكن نفوذه، ولا ثروته، ولا الحراس حول بيته…
بل امرأة بسيطة وقفت بجسدها في وجه الخطر دون أن تفكّر.
وأن أعظم صدمة في حياته…
لم تكن السكين.
بل الحقيقة.

تعليقات