في اليوم التالي، عادت إميلي إلى صالون العزاء. دخلت المكان بالملابس نفسها، وبالهدوء نفسه، وبالملامح المتماسكة التي حيّرت الجميع. لم يلحظ أحد التغيّر الحقيقي؛ ذلك التغيّر الذي لا يظهر في العيون، بل في القرار.
كانت المراسم تقترب من نهايتها. الأصوات خافتة، والخطوات محسوبة، والوجوه متعبة من طول الحزن. تقدّمت امرأة من العائلة تحمل وعاءً خزفيًا أزرق شاحب اللون، مملوءًا بالماء، وقالت بصوتٍ خفيض إن هذا الطقس يُستخدم كوداعٍ أخير، بركة أخيرة قبل الإغلاق النهائي للتابوت.
وقبل أن تقترب، تحرّكت إميلي خطوة واحدة إلى الأمام.
قالت بهدوء:
«سأفعل ذلك بنفسي».
ساد صمت مفاجئ. لم يكن في طلبها ما يبدو غريبًا، فهي الزوجة، والأقرب، والأحق. سلّمتها المرأة الوعاء دون تردّد، لكن نظرات الحاضرين تشابكت. كان في الأمر شيء غير مألوف، شيء لا يُمسَك بالكلمات.
وقفت إميلي أمام التابوت. اقتربت ببطء، ونظرت إلى وجه دانيال نظرة طويلة، ثابتة، خالية من الانكسار. تأمّلت ملامحه بدقة: البشرة المتناسقة، الجبين الهادئ، الشفتان المطبقتان بعناية. لم يكن هذا وجه رجلٍ قُتلته النيران، ولم يكن جسد إنسانٍ خرج من حادث مروّع.
كان هادئًا أكثر مما ينبغي.
في تلك اللحظة، لم تشعر بالغضب.
لم تشعر بالرغبة في الانتقام.
شعرت فقط بيقينٍ كامل.
رفعت الوعاء دون تردّد، وسكبت الماء مباشرة على وجهه.
في جزء من الثانية، تغيّر كل شيء.
انطلقت شهقات حادة من الحاضرين.
تراجع البعض خطوة إلى الخلف.
تجمّد آخرون في أماكنهم.
الماء انساب على جبينه، ثم على عينيه…
وتحرّكت جفونه.
ببطء في البداية.
ثم بعجلة مفاجئة.
فتح دانيال عينيه فجأة، كمن يُنتزع من كابوسٍ طويل. شهق بقوة، سعل، وبدأ جسده يتحرّك بعنف. حاول الجلوس، يديه تبحثان عن الهواء، وصدره يرتفع ويهبط بسرعة غير منتظمة.
انفجر المكان بالفوضى.
صرخات متداخلة.
أصوات مذهولة.
كلمات غير مكتملة.
أما إميلي، فتراجعت خطوة واحدة فقط. لم تركض. لم تصرخ. لم تُظهر أي انفعال زائد. وقفت ثابتة، وصوتها حين خرج، كان واضحًا، باردًا، لا يقبل الشك:
«اتصلوا بالشرطة… وبالإسعاف.
هذا الرجل ادّعى أنه زوجي الميت».
لم تحتج الأمور إلى وقت طويل. خلال دقائق، وصلت الجهات المختصة. حاول دانيال الهرب حين أدرك أن خطته انهارت، لكن خطواته كانت أبطأ من الحقيقة. لم يبتعد كثيرًا. لم يكن هناك مكان يختبئ فيه هذه المرة.
تتابعت التحقيقات بسرعة. سقطت التفاصيل واحدة تلو الأخرى. الهاتف، الرسائل، الترتيبات، الأشخاص المتورّطون. كل شيء خرج إلى النور. لم تعد هناك قصة واحدة يمكن الدفاع عنها، ولا رواية تصمد أمام الحقائق.
واجه دانيال سنوات طويلة خلف القضبان. لم يكن سقوطه مدوّيًا كما تخيّل البعض، بل بطيئًا، ثقيلًا، لا رجعة فيه.
أما إميلي، فلم تطلب انتقامًا صاخبًا.
لم تطلب تعويضًا معنويًا أمام الكاميرات.
لم تُدلِ بخطابات مؤثرة.
تبرّعت بجزء كبير مما حصلت عليه.
رحلت عن المكان الذي شهد الخديعة.
غيّرت اسمها، لا هربًا، بل بدايةً جديدة.
وبدأت حياة مختلفة، أبسط، أوضح، وأكثر صدقًا مع نفسها.
بعد أشهر، وصلتها رسالة اعتذار منه. كلمات طويلة، اعترافات متأخرة، طلبات غفران. أمسكت الظرف بين يديها لحظة، دون أن تفتحه. لم تشعر بالفضول، ولم تشعر بالحاجة إلى الرد.
أشعلت النار.
وألقت الرسالة فيها.
راقبت الرماد وهو يتفتّت، ويتطاير في الهواء، بلا وزن، بلا أثر.
لم تشعر بشيءٍ سوى السلام.
لأن بعض النهايات لا تحتاج إلى صراخ،
ولا إلى مواجهات طويلة،
ولا إلى كراهية مستمرة.
بعض النهايات تحتاج فقط إلى قرارٍ واضح،
وهدوءٍ ثابت،
وامرأة عرفت متى تصمت…
ومتى تكشف الحقيقة كاملة،
ثم تمضي دون أن تلتفت.
تعليقات