خسر وظيفة أحلامه في دقائق… ثم اكتشف أن القدر كان يخطّط له لشيء أعظم
تابع ليوبولدو حديثه بنبرة أقل صرامة:
«ابنتي أخبرتني بكل ما حدث. أخبرتني أنك ساعدتها حين كان بإمكانك أن تمضي في طريقك دون أن تلتفت. أنك ضحّيت بفرصتك، ولم تنتظر شكرًا، ولا مكافأة، ولا حتى وعدًا».
صمت قليلًا، وكأنه يزن كلماته بدقة، ثم قال:
«في عالمٍ أصبح فيه الناس يقيسون كل شيء بالمصلحة، أمثالك نادرون. وإن كنت لا تزال مهتمًا… فأنا أرغب في منحك فرصة ثانية. فرصة تستحقها».
التفت إستيبان نحو صوفيا، فبادلته ابتسامة دافئة، لم تكن ابتسامة شفقة، بل ابتسامة فخر. شعر بأن صوته يرتجف وهو يقول:
«نعم… نعم، ما زلت مهتمًا».
وهكذا، انضم إستيبان إلى فريق الابتكار في شركة تيكنوفا غلوبال. لم يكن الأمر سهلًا، لكنه كان مستعدًا. كان يعمل بصمت، ينجز أكثر مما يُطلب منه، ويقضي ساعات طويلة يطوّر أفكاره، لا بدافع إثبات نفسه للآخرين، بل وفاءً لتلك الفرصة التي جاءت من صدق موقفه لا من دهائه.
وسرعان ما بدأ اسمه يُتداول داخل أروقة الشركة. أفكاره جريئة، حلوله مختلفة، ورؤيته التقنية تجمع بين الذكاء الإنساني والدقة العلمية. لم يمر وقت طويل حتى صار أحد الأعمدة الأساسية في مشاريع الابتكار.
أما صوفيا…
فأصبحت حضورًا يوميًا في حياته، دون أن يخططا لذلك.
كانا يتحدثان خلال فترات الاستراحة، يتشاركان الغداء أحيانًا، ويتبادلان الأحاديث القصيرة في الممرات. شيئًا فشيئًا، تحولت الأحاديث العابرة إلى لحظات انتظار، وتحول الاعتياد إلى اهتمامٍ خفي.
وفي أحد الأيام، بينما كانا يجلسان في حديقة الشركة، قالت له وهي تنظر إلى الأشجار:
«تعلم؟ معظم الناس لم يكونوا ليتوقفوا لمساعدتي في ذلك اليوم».
هز كتفيه بخجل، وقال:
«لم أفكر بالأمر كثيرًا. فعلتُ ما شعرتُ أنه الصواب».
ابتسمت، وهزّت رأسها قائلة:
«لا، يا إستيبان. أنت فعلت ما يفعله الإنسان الصالح. وأظن أن القدر لا يجمع الناس عبثًا».
توقف نَفَسه للحظة، وشعر بأن الكلمات أثقل من أن تمرّ مرورًا عاديًا.
اقتربت قليلًا وهمست:
«أصبحتَ مهمًا بالنسبة لي».
نظر في عينيها، ورأى صدقًا نادرًا، ذلك الصدق الذي لا يحتاج إلى وعود ولا تفسيرات.
وقال بهدوء:
«وأنتِ أيضًا».
ومن تلك اللحظة، تغيّر كل شيء.
لم يكن تغييرًا صاخبًا، ولا حبًا اندفع فجأة كعاصفةٍ عابرة.
لم يكن وعدًا أُطلق تحت ضغط اللحظة، ولا شعورًا ارتبك بين الخوف والتسرّع.
بل كان تغيّرًا بطيئًا…
يتشكّل يومًا بعد يوم،
برفقٍ يشبه رفق الفهم،
وبجمالٍ هادئ يشبه النضج حين يبلغ ذروته دون أن يطلب الانتباه.
مرّت السنوات، ولم يعد إستيبان ذلك الشاب الذي يراقب الساعة بقلق خوفًا من فوات الفرص. أصبح رجلًا يعرف أن بعض الفرص لا تأتي في مواعيدها، بل تأتي حين نكون مستعدين لها أخلاقيًا قبل أن نكون مستعدين لها مهنيًا.
تدرّج في عمله، لا بالصوت العالي ولا بالمنافسة القاسية، بل بالثبات، وبالعمل الصامت الذي يفرض نفسه مع الوقت. أصبح مدير الابتكار في شركة تيكنوفا غلوبال، يقود فرقًا كاملة من المهندسين والمبدعين، ويشرف على مشاريع لم تكن تهدف فقط إلى الربح، بل إلى إحداث فرقٍ حقيقي في حياة الناس.
كان يؤمن أن التكنولوجيا بلا إنسانية مجرّد أدوات باردة،
وأن النجاح الحقيقي هو ذاك الذي يترك أثرًا لا يُقاس بالأرقام فقط.
أما صوفيا، فقد وجدت طريقها هي الأخرى، لا في الظل، ولا في واجهةٍ مفروضة عليها بسبب اسم والدها، بل في مساحةٍ صنعتها بنفسها. تولّت قيادة مشاريع الأثر الاجتماعي داخل الشركة، وربطت بين الابتكار والمسؤولية، بين التقدّم والرحمة، بين ما يمكن للتكنولوجيا أن تفعله… وما يجب أن تفعله.
كانا يعملان معًا، لكن كلٌّ منهما يحتفظ بعالمه الخاص.
وكان ما يجمعهما أعمق من العمل،
وأهدأ من الحب المتسرّع،
وأصدق من أي تعريف جاهز.
وفي أمسياتٍ كثيرة، كانا يعودان بذاكرتهما إلى تلك اللحظة الأولى…
إلى رصيفٍ مزدحم،
وكاحلٍ ملتوي،
وساعةٍ أُعيدت إلى الجيب دون تردّد.
كانا يتذكرانها لا بأسف،
ولا بحنينٍ موجع،
بل بامتنانٍ خالص.
ليس لأنها كانت يوم خسارة،
بل لأنها كانت يوم بداية.
اليوم الذي ظنّ فيه إستيبان أنه خسر فرصة عمره،
كان في الحقيقة اليوم الذي وُضِع فيه على الطريق الذي خُلق له.
لأن بعض الخسارات لا تأتي لتأخذ منا،
بل لتُفرغ أيدينا…
حتى نتمكّن من حمل ما هو أعظم.
ولأن القدر، حين يرى قلبًا صادقًا يختار الإنسان قبل المصلحة،
لا يتركه فارغ اليدين.
فقدان شيءٍ ما…
قد يكون أحيانًا
ليس خسارة،
بل مساحةً جديدة
لشيءٍ أكبر،
أصدق،
وأقرب إلى ما نستحق.

تعليقات