سبع سنوات من العمى والوحدة… طفلة واحدة فعلت ما عجز عنه العالم كله
تدريجيا تحول إلى حوارات قصيرة متقطعة لكنها صادقة. حوارات لا تتجاوز بضع جمل لكنها كانت كافية لتغيير إيقاع المساء.
كانت آنا تصف له أشياء لم يسأل عنها أحد من قبل.
تخبره عن الزهور البرتقالية في وسط الطاولة كيف تبدو كأنها مشتعلة تحت الضوء وعن العروق الذهبية في الرخام التي تشبه طرقا متداخلة لا تنتهي. كانت تصف له أضواء المباني المجاورة كيف تنطفئ نافذة بعد أخرى وكيف تبقى بعض النوافذ مضاءة كأنها ترفض النوم.
كان إدواردو يصغي. لا يقاطع. لا يستعجل.
وكان يكتشف للمرة الأولى أن المكان الذي عاش فيه سنوات لم يكن بالنسبة له سوى مساحات محسوبة وأرضيات باردة وزوايا آمنة. بيت بلا صورة.
في إحدى ليالي الجمعة وبينما كانت روزا منشغلة بتنظيف المطبخ حدث ما لم يكن مخططا له.
سحبت آنا كلارا الكرسي الفارغ المقابل له دون استئذان وجلست عليه كما يجلس الأطفال حين يشعرون أن المكان صار مألوفا بما يكفي.
نظرت إليه وسألته بصدق طفولي لا يعرف المجاملة
لماذا تتعشى وحدك إذا كان لديك كل هذه الأماكن
حاول أن يضحك. حاول أن يقدم إجابة خفيفة عن ازدحام المواعيد وعن صعوبة تنسيق الوقت مع الآخرين وعن العمل الذي لا ينتهي. لكن صوته خانه. كان فيه تعب قديم لا علاقة له بالإرهاق المهني بل بالفراغ.
نظرت إليه آنا قليلا ثم قالت بحزم لا يقبل النقاش
إذا اليوم لن تتعشى وحدك.
قسمت قطعة الخبز إلى نصفين وقدمت له أحدهما بحركة طبيعية كأن الأمر بديهي.
في الخلفية كانت روزا تعتذر بصوت منخفض لكن إدواردو قال بهدوء لم تعهده منه من قبل
دعيها تبقى.
منذ تلك الليلة لم يحدث تغيير كبير دفعة واحدة.
لم تتبدل الأثاثات ولم تلغ المواعيد ولم يتحول البيت إلى مكان صاخب.
لكن التفاصيل الصغيرة بدأت تتحرك.
كرسي لم يعد ملتصقا بالجدار.
صينية حلوى توضع في المنتصف بدل طرف الطاولة.
كأس ثانية تحضر تحسبا حتى في الليالي التي لا تأتي فيها آنا.
بعد سبع سنوات لم تكن تلك العشاءات مجرد ذكرى.
كانت جزءا من فلسفة جديدة انعكست حتى على قرارات الشركة.
أطلق برنامج منح دراسية لأبناء عمال النظافة والطهاة والحراس ليس بدافع الدعاية بل بدافع قناعة ترسخت ببطء.
في محاضر الاجتماعات الداخلية لم يذكر تحليل سوق ولا توصية استشارية.
كتب فقط أن الفكرة ولدت من حديث متكرر مع طفلة كانت ترفض اعتبار الطاولات الفارغة أمرا طبيعيا.
اليوم لم يعد إدواردو يعرف بيته بعد الخطوات فقط ولا بضربات العصا على الأرض ولا بتجنب الزوايا الحادة التي تعلمها عن ظهر قلب. لم يعد المنزل بالنسبة له مجرد مساحة آمنة يتحرك فيها دون خوف من التعثر أو السقوط بل صار مكانا يحمل ذاكرة ونبضا ومعنى.
صار يعرفه بالكلمات التي استعارها من طفلة بالكلمات التي كانت تصف له الأشياء كما لو أنها ترى للمرة الأولى. تعلم أن الرخام ليس مجرد سطح بارد بل خطوط تحكي قصصا وأن الطاولة ليست قطعة أثاث بل مساحة يمكن أن تجمع وأن الصمت لا يكون دائما علامة نظام أو انضباط بل أحيانا علامة غياب.
علمته تلك الطفلة أن الأمان لا تصنعه الأنظمة وحدها ولا تحققه البرامج المعقدة أو الجدران السميكة بل تصنعه الأصوات التي تملأ الفراغ دون استئذان والوجوه التي تجلس معك بلا مصلحة والضحكات الصغيرة التي لا تدرج في الجداول ولا في التقارير.
ورغم أن الميزانيات ما زالت تبهر المحللين وأن الأرقام ما تزال تصعد بثبات يصر إدواردو على أن أكثر استثمار غير مسار حياته لم يكن صفقة ذكية ولا توسعا مدروسا ولا برنامجا ثوريا في عالم التقنية بل لحظة بسيطة غير محسوبة حدثت خارج كل المخططات.
تلك الليلة التي فعلت فيها ابنة عاملة التنظيف ما بدا مستحيلا في عالمه المنظم بعناية
جلست إلى جواره دون خوف دون تردد ودون أن تدرك أنها تعيد ترتيب حياته من جديد.
جلست وتحدثت وشاركت الخبز وملأت بصوتها مساحة ظلت صامتة سبع سنوات كاملة وكأنها تقول له دون كلمات إن الطاولات لم تصنع لتبقى فارغة وإن الحياة لا تقاس بعدد الخطوات الصحيحة بل بعدد القلوب التي تجرؤ على الاقتراب.

تعليقات