طفلة فقيرة أوقفت جنازة زوجة ملياردير… وما كُشف بعد ذلك صدم المدينة كلها
تغيّر وجه سانت أوريليا حين غادر موكب جاك الأحياء الثرية. تحوّلت الشوارع المرصوفة إلى أزقّة بلا لافتات مصقولة، تتدلّى فيها حبال الغسيل وتعلوها علامات الصدأ. قادتهم تالا بثقة: «انعطفوا عند المخبز ذي الباب الأحمر. تجاوزوا موقف الحافلة الذي عليه جدارية متقشّرة».
توقّفوا أمام مبنى ضيّق مطليٍّ بأزرق باهت. دخل جاك مع فريق حراسته. التصق بالممرّ عبق وجبات قديمة. في الغرفة العلوية وجدوا بطانية رقيقة، وكوبًا متشقّقًا، وشريطًا حريريًا مطرّزًا بالحرفين «م.هـ». رفعه جاك وهو يرتجف.
همس: «كانت هنا».
ناداه أحد الحراس من الدرج: «سيدي… سترغب في رؤية هذا».
كاميرات مخفيّة. تجهيز تسجيل بدائي. ساعات من اللقطات. وفي مقطعٍ واحد جلست ميريل على الأرض، شاحبة لكنها حيّة. دخل الإطار رجل يحمل طعامًا. قبض جاك على حافة الطاولة. تعرّف إليه فورًا: روريك، مساعد لوجستي سابق كان قد طرده قبل أشهر بسبب سلوكٍ مريب.
قبل أن تتمكّن الشرطة من تحديد مكان روريك، تتبّع فريق جاك هاتفه إلى نُزلٍ قرب أطراف غابات فيرنكرست الضبابية. تحرّكوا بسرعة. وحين اقتحم الفريق المكان، ارتبك روريك وأسقط حقيبة.
صرخ جاك: «أين زوجتي؟».
انتحب روريك: «ليست هنا. شخصٌ آخر أخذها. دُفعتُ لأُبقيها مخفيّة».
«مَن دفع لك؟».
قال وهو يلهث: «امرأة تُدعى يسيلا فونتين. كانت تلوم ميريل على تدمير شركتهما الاستشارية. قالت إن ميريل تستحق أن تختفي».
ضرب الاسم جاك كموجةٍ باردة. كانت يسيلا أقرب شركاء ميريل في الماضي قبل أن ينهار تعاونهما.
على مكتب الكتابة وجدوا دفترًا. كان خطّ ميريل يرتجف على الصفحات: «أنا محبوسة في مكان يردّد كل صوت. تقول يسيلا إن لا أحد يبحث عنّي. هي تكذب، لكنّي أحيانًا أخاف أن يبتلعني الصمت».
أغلق جاك الدفتر وقال: «سنجدها الآن».
كانت يسيلا قد نقلت ميريل إلى برجٍ غير مكتمل في الحيّ المركزي، معتقدة أن الضجيج سيخفي كل شيء. لكن ميريل وجدت فرصة. كتبت رسالة على منديل ورقي: «اسمي ميريل هالبرغ. الطابق الرابع عشر». وأخفتها في القمامة. عثر عليها لاحقًا عامل نظافة واتصل بخطّ الأخبار.
حين وصل جاك إلى الموقع مع وحدة تكتيكية، كانت صفّارات الإنذار في البعيد ترنّ كتحذيرات. أصرت تالا على الانضمام: «كنتُ أوّل من رآها. أريد أن أراها آمنة».
في الطابق الرابع عشر سمعوا يسيلا تصرخ: «إن اقتربتم أكثر، سأنهي الأمر».
ارتجف صوت جاك: «أرجوكِ… دعيها تعيش».
صرخت يسيلا: «ولِمَ؟ كان لديها كل شيء بينما كنتُ أغرق».
وبينما كانت يسيلا تهذي، اقترب العناصر من الشرفة العلوية. تحطّم الزجاج. خطوات سريعة. أُمسكت يسيلا قبل أن تصل إلى النافذة.
اندفع جاك إلى الكرسي حيث كانت ميريل مقيّدة. فتحت عينيها وقالت: «جاك… كنتُ أعلم أنك ستجدني».
حرّر قيودها. وقفت تالا عند الباب. مدت ميريل يدها وأمسكت بيد الفتاة: «شكرًا لأنكِ صدّقتِ عينيكِ».
مرّت أسابيع. مثُلت يسيلا أمام القضاء. وخفّف تعاون روريك من عقوبته. أمّا التحوّل الحقيقي فقد جرى داخل بيت جاك. صارت تالا جزءًا من الأسرة لا بدافع الصدقة، بل باعتراف الأرواح. ازدادت إشراقًا وحدّةً وولاءً لا يلين. وأسّست ميريل مؤسسة تحمل اسم تالا، تُعنى بالبحث عن المفقودين الذين تبتلعهم متاهات البيروقراطية والصمت.
في إحدى الأمسيات، وبينما كانت الأسرة تتشارك عشاءً بسيطًا، شرحت تالا الطريقة الصحيحة لحمل «تاكو» الشارع دون أن ينسكب. ضحكت ميريل حتى اغرورقت عيناها. راقب جاك المشهد بامتنان. كان عالمهم قد تشقّق، لكنهم أعادوا بناءه معًا على أسسٍ أصلب.
ومع ذلك، ففي سانت أوريليا، لم يكن السلام يومًا حالةً مستقرة، بل هدنة هشّة تمشي على أطراف الأصابع. في صباحٍ رماديّ لاحق، وبينما كان جاك يستعدّ لمغادرة منزله، سلّمه الحارس ظرفًا بلا طابع، بلا عنوان مرسل، كأنه وصل من العدم. لم يحتج جاك إلى فتحه ليشعر بثقله؛ بعض الرسائل تُعلن نواياها قبل أن تُقرأ.
في الداخل، كانت صورة واحدة فقط. التُقطت داخل منشأةٍ نفسية ذات جدران باهتة وإضاءة قاسية. جلست يسيلا على مقعد معدني، كتفاها منحنيتان، نظرتها شاردة. إلى جوارها رجل ببدلة كحلية أنيقة، جلس بثبات وراحة، كأن المكان لا يعنيه. لم تُظهر الصورة سوى جانبه، لكن ذلك كان كافيًا. عرفه جاك فورًا، دون حاجة إلى اسم أو توقيع: كاستور هالبرغ، شقيقه المنقطع، الرجل الذي اختفى من حياته منذ سنوات، لا بسبب خلاف عابر، بل بسبب طموحٍ لا يعرف حدودًا.
عاد جاك بذاكرته إلى الوراء. إلى الأيام الأولى من بناء الإمبراطورية، حين كانا شريكين، يتقاسمان الأحلام والمخاطر. كان كاستور أذكى منه في المناورات، أسرع في اقتناص الفرص، لكنه كان أيضًا أقل صبرًا، وأكثر استعدادًا لحرق الجسور إن لزم الأمر. وحين رفض جاك المضيّ في صفقات رمادية تهدّد سمعة العائلة، اختار كاستور الرحيل… لا بهدوء، بل بوعدٍ مبهم بأن العالم لا يكافئ الطيبين.
أسفل الصورة، وُضعت ورقة صغيرة بخطّ مستقيم، بارد:
«لقد تعاملتَ مع يسيلا. لكنها لم تكن سوى تمهيد. لستُ أستهدف قلبك… بل إمبراطوريتك».
قرأ جاك العبارة أكثر من مرة. لم يشعر بالغضب، ولا بالخوف. شعر بشيءٍ أخطر: وضوحٍ مفاجئ. طوى الرسالة بعناية، كما يطوي الإنسان خريطة معركة يعرف أنها لم تبدأ بعد.
في تلك اللحظة، سمع ضحكة تالا من المطبخ، ضحكة قصيرة صافية، تبعتها ضحكة ميريل. كان صوت الحياة، بسيطًا ومباشرًا، كأنه تذكيرٌ مقصود بسبب كل ما تحمّله. أدرك جاك أن كاستور أخطأ التقدير؛ فقد ظنّ أن نقاط ضعف جاك هي عاطفته، بينما كانت في الحقيقة مصدر قوته.
في الأيام التالية، لم يتحرّك جاك بانفعال. بدأ بهدوء شديد، ذلك الهدوء الذي يسبق العواصف المنظمة. راجع العقود القديمة، أعاد هيكلة بعض الإدارات، وأخرج ملفات ظنّ الجميع أنها أُغلقت. لم يكن يسعى للانتقام، بل للتحصين. علّمته التجربة أن الإمبراطوريات لا تسقط من الخارج فقط، بل من الشقوق التي نرفض رؤيتها.
وفي إحدى الأمسيات، جلس مع ميريل في الشرفة، وتالا بينهما ترسم مدينةً بألوان زاهية. قالت ميريل بعد صمت:
«كاستور لن يتوقف».
أومأ جاك:
«ولا أنا».
رفعت تالا رأسها وسألت ببراءة:
«هل الظلال مخيفة؟».
ابتسم جاك، ومدّ يده ليضعها على كتفها:
«فقط حين لا يكون هناك نور».
في تلك الليلة، أدرك جاك أن المعركة القادمة لن تكون على المال وحده، بل على المعنى. على أيّ عالمٍ سيتركه خلفه. ومع أن الظلال كانت تتحرّك، وتتمدّد، فقد صار يحمل في داخله نورًا أشدّ سطوعًا من أي وقتٍ مضى… نور عائلةٍ لم يعد مستعدًا لخسارتها، ولا للتراجع خطوةً واحدة عن حمايتها.

تعليقات