أعطى طفلةً كل ما يملك… فعادت بعد سنوات وغيّرت حياته للأبد

أعطى طفلةً كل ما يملك… فعادت بعد سنوات وغيّرت حياته للأبد

مرّت السنوات. كبرت إيفلين وصارت شابة واثقة طموحة، وساعدها اجتهادها وحظّ أمّها على بلوغ الثراء والراحة. تابعت دراستها في إدارة الأعمال، ثم أسّست شركةً ازدهرت سريعًا. ومع ذلك، لم يغب عن بالها الرجل الذي مدّ لها يد العون في أحلك لحظاتها. كانت تذكر جدعون كل عام، وتأمل أن تردّ له جميله يومًا.
وفي مكانٍ آخر، أعاد جدعون ومايلز بناء حياتهما المتواضعة ببطءٍ ومشقّة. تخرّج مايلز من الجامعة لكنه عانى في إيجاد عمل. كل يوم كان يرتدي مئزر جدّه القديم، يُلمّع الأحذية ويُساعد في الدكّان. ورغم العسر، ظلّ متفائلًا.
في صباح سبتٍ ما، بينما كان مايلز يُعدّل رباط حذاء أحد الزبائن، توقّفت سيارة سوداء أنيقة، ونزلت منها امرأة أنيقة. قالت بصوتٍ هادئ واثق: «هل يمكنك مساعدتي في هذا المشبك؟». أصلحه مايلز بعناية ورفض الأجر: «لا داعي». راقبته المرأة—مدام فيفيان هارتلي—باهتمام.

كانت تبحث عن سائقٍ أمينٍ مجتهد، ورأت في مايلز الصفات النادرة التي تنشدها. ناولته بطاقة وقالت: «اتصل بي غدًا إن رغبت. أستطيع توفير سكنٍ وأجرٍ منصف». عاد مايلز مسرعًا إلى البيت وأخبر جدعون، فامتلأت قلوبهما بأملٍ حذر، ووعد مايلز أن يتحقّق من الأمر قبل الالتزام.
خلال أسبوعٍ واحد فقط، منحت مدام هارتلي ثقتها الكاملة لمايلز، بعدما رأت فيه صدقًا نادرًا وانضباطًا لم تعهده كثيرًا. كان يؤدي عمله بإخلاصٍ لافت، يصل قبل الموعد، ويغادر بعد أن يتأكد أن كل شيء على ما يرام. لم يكن مجرد سائقٍ بالنسبة لها، بل صار شخصًا تعتمد عليه في تفاصيل يومها، وتطمئن لوجوده كما لو كان فردًا من العائلة. ومع الأيام، بدأ مايلز يشعر بأن حياته، التي طالما سارت ببطءٍ مثقل، أخذت أخيرًا منحى أكثر استقرارًا وأملًا.
وفي أحد الأيام، وبينما كان ينتظر في بهو الشركة، التقى على نحوٍ غير متوقّع بابنة مدام هارتلي، إيفيلينا. دخلت المكتب بخطواتٍ واثقة، ترتدي أناقة هادئة لا تستعرض نفسها، ويحيط بها حضور دافئ يفرض الاحترام دون تكلّف. لفتت مايلز منذ اللحظة الأولى، ليس بجمالها فحسب، بل بطريقة حديثها، ونظرتها التي تجمع بين القوة واللطف. تبادلا التحية، وكانت كلمات قليلة كافية لزرع بذرة اهتمامٍ صامت في قلب كلٍ منهما.

ومع مرور الأسابيع، كثرت الرحلات المشتركة، وتكرّرت الأحاديث القصيرة التي تبدأ بأمورٍ عابرة وتنتهي بصمتٍ مريح. كان مايلز يستمع أكثر مما يتكلم، وكانت إيفيلينا تلاحظ ذلك، وتقدّره. شيئًا فشيئًا، تحوّل الإعجاب إلى شعورٍ أعمق، حبٍّ ينمو بهدوء، دون استعجال أو وعودٍ كبيرة. وكان في قلب إيفيلينا صدى الشعور ذاته، وإن ظلّ غير معلن، محفوظًا بعناية.
ومضيا معًا بحذرٍ واحترام في مشاعرهما، تبني كل لحظةٍ بينهما رابطًا أقوى، وتكشف لكلٍ منهما أن الحياة، رغم قسوتها السابقة، ما زالت قادرة على منح بدايات جديدة. وفي الوقت الذي كانت فيه هذه العلاقة تتشكّل ببطء، كانت الأقدار تهيّئ لقاءً آخر لا يقل عمقًا.
في تلك الأثناء، تقاطعت طريق إيفلين أخيرًا مع حياة جدعون من جديد. بعد سنواتٍ من البحث والذكرى الحاضرة في قلبها، وصلت إلى باب ورشته المتواضعة برفقة مايلز. وقفت أمامه للحظة، تتأمّل ملامحه التي غزاها الشيب، لكنها لم تفقد طيبتها. ثم قالت بهدوءٍ يحمل ثقل السنين:
«هل تذكرني؟ أنا الطفلة التي ساعدتها برسوم المدرسة».
اتّسعت عينا جدعون، وتجمّد للحظة كأن الزمن عاد به إلى تلك الزاوية القديمة من الشارع، يوم مدّ يده لطفلةٍ تبكي. انهمرت دموعه دون مقاومة، وهو يدرك أن تلك الطفلة تقف الآن أمامه امرأةً ناجحة، وقد أوفت بوعدها. ركعت إيفلين أمامه، أمسكت يديه الخشنتين بحنان، وقالت بصوتٍ صادق:
«منحتني الأمل حين لم يكن لديّ شيء. ما فعلته لم ينقذ يومي فقط، بل غيّر حياتي كلّها. جئت اليوم لأكرّمك، لا بالمال وحده، بل بالامتنان الذي أحمله منذ ذلك الصباح».

اجتمعوا معًا في لحظةٍ امتزج فيها الماضي بالحاضر، واحتفلوا بمصالحةٍ عميقة مع الحياة نفسها. قدّمت إيفلين لجدعون ومايلز بيتًا مفروشًا بالكامل، وموردًا ثابتًا يضمن لهما كرامة العيش، ليطويا صفحة العوز نهائيًا. لم يكن العطاء هذه المرة من باب الشفقة، بل وفاءً لوعدٍ قديم.
وبعد ذلك بوقتٍ قصير، تزوّجت إيفلين من مايلز، وكان زواجهما تتويجًا لسنواتٍ من المصائر المتشابكة، ولطفٍ بدأ من فعلٍ بسيط في شارعٍ متواضع. شهد جدعون—الذي كان يومًا صانع أحذيةٍ بسيطًا—كيف يمكن لعملٍ واحد من الإيثار أن يغيّر مصائر أجيال كاملة.
وهكذا، من دموعٍ سقطت على شارعٍ تغمره الشمس، إلى عائلةٍ مزدهرة تنعم بالحبّ والاستقرار، أصبحت قصة إيفلين وجدعون ومايلز شاهدًا حيًا على قوّة السخاء، وعلى أن الخير، مهما بدا صغيرًا، لا يضيع أبدًا، بل يعود يومًا مضاعفًا، محمّلًا بالبركات.