حين طلب طفل الهروب من قصره… اتخذت الخادمة قرارًا غيّر كل شيء
ظلّ القصر غارقًا في صمتٍ ثقيل، حين دوّى بكاء الطفل في أروقته الخالية، يتردّد بين الممرّات التي تضيئها مصابيح عتيقة لم تنجح يومًا في تبديد ذلك البرد المتغلغل في المكان.
ارتطم الصدى بصدرها، لأنه لم يكن بكاءً عاديًا، بل نحيبًا عميقًا خرج من قلبٍ صغيرٍ أثقلته وحدة صامتة لا يحتملها عمره. وحين عمّت الفوضى أرجاء القصر، لم يفهم أحد لماذا كانت الخادمة تركض عبر أرجائه مسرعة.
اندفعت في الممر الطويل، تتأمّل أعمدة الرخام التي لا تنتهي، بينما كان ظلّها المرتجف يتمدّد على الجدران، وهي تقترب من مصدر البكاء الذي جعل جلدها يقشعر.
كان هناك، جالسًا على الأرض الباردة، يداه الصغيرتان ترتجفان، عيناه محمرّتان، ووجنتاه مبلّلتان بالدموع، وأنفاسه المتقطّعة تكشف عن ألمٍ يستحيل على طفلٍ في مثل سنّه أن يحتمله.
جثت الخادمة ببطء، خشية أن تزيد خوفه، لكنه رفع وجهه فورًا، كأنه كان ينتظر هذا الاحتواء طوال حياته.
ضمّته دون تفكير، شعرت بجسده الصغير يتصلّب أولًا، ثم يلين تدريجيًا بين ذراعيها، وكأنه وجد أخيرًا مكانًا يستطيع فيه أن يتنفّس بطمأنينة.
وبينما كانت تحتضنه، سمعت صوته المكسور يهمس بكلمات حطّمت روحها وغيّرت مصيرهما إلى الأبد في لحظة واحدة فاصلة:
«من فضلك… خذيني معكِ».
تعلّق بزيّها بقوّة، حتى شعرت وكأن العالم بأسره توقّف في تلك الثانية القاسية.
لم تعرف كيف تردّ، فهذه الكلمات كانت خارج حدود وظيفتها، لكن شيئًا بدائيًا تحرّك في داخلها، شيءٌ يطالبها بحماية هذا الطفل الهشّ.
لم يكن القصر يومًا بيتًا له، بل قفصًا مذهّبًا، يقضي فيه ساعات طويلة يراقب بالغين لا مبالين، ويسمع أوامر باردة خالية من أي عاطفة.
كان والده الملياردير نادر الوجود، دائم الانشغال بالاجتماعات والسفر والاستثمارات، يترك ابنه محاطًا بالفخامة، لكنه فارغ من الداخل.
كانت الخادمة قد رأت الكثير من المعاناة المختبئة خلف الجدران اللامعة، وكانت تعلم أن لا أحد في ذلك البيت يهتم حقًا بسلامة الصغير.
فاندفعت دون تروٍّ، مدفوعة بنارٍ داخلية لم تشعر بها من قبل، وأمسكت بأول عربة حدائق وجدتها قرب الشرفة الخلفية.
وضعت الطفل داخلها، وغطّت رأسه بقطعة قماش ناعمة، فنظر إليها بارتباك، لكنه كان هادئًا على نحوٍ مدهش، يثق بها ثقةً كاملة في قرارها المفاجئ.
وما إن بدأت بدفع العربة، حتى أطلق الطفل ضحكة غير متوقّعة، ضحكة نقية كادت أن تشلّ حركتها من شدّة التأثّر.
لكن لم يكن هناك وقت. فقد سمع الحراس الضجيج وبدؤوا بالركض خلفها، يصرخون بالأوامر ويتواصلون عبر أجهزة اللاسلكي في فوضى عارمة.
كان صوت خطواتهم يقترب، لكنها لم تلتفت، مركّزة كل طاقتها على إبقاء العربة ثابتة فوق الطريق الحجري.
مرّت الشجيرات المشذّبة كظلال مسرعة، والريح تضرب وجهها، والعجلات تصرخ مع كل انعطافة يائسة.
رفع الطفل ذراعيه وهو يضحك، كأن هذا الهروب المفاجئ لعبة العمر، غير مدركٍ للفوضى العنيفة التي تتفجّر خلفه.
صرخ أحد الحراس باسمها، يأمرها بالتوقّف، لكنها زادت سرعتها، تشعر بالأدرينالين يحوّل ساقيها إلى نارٍ مصمّمة.
صار القصر أصغر في الخلف، بينما أضاءت أشعة الشمس الحديقة، وكأن العالم بدأ أخيرًا ينفتح أمامهما.
نظر الطفل إليها بابتسامة صادقة إلى حدّ أنها فهمت، رغم هروبهما من الخطر، أنه يشعر بالأمان للمرة الأولى.
وصل الحراس إلى الطريق الرئيسي ركضًا، بزيّهم الأنيق غير الملائم للمطاردة، والعرق يتصبّب من جباههم المتشنّجة.
كان كل وقع قدمٍ كقرع طبل، لكنها واصلت الركض، تستحضر كل دمعة رأت الطفل يذرفها خلال الشهور الماضية.
تذكّرت لحظاته وهو يبحث عن لمسة حنان، يمدّ يده، فلا يلقى إلا اللامبالاة أو صدًّا قاسيًا.
تذكّرت ليالي كاملة كانت تسمع فيها بكاءه من الغرفة المجاورة، وتتساءل لماذا لا يلاحظ أحد ألمه الهائل.
تذكّرت وعود والديه بالحب، بينما كانا يسافران باستمرار، يتركانه في رعاية موظفين لا يعرفون معنى الحنان.
شدّت من سرعتها، عازمة على ألا تتركه يعود إلى تلك الجدران، حيث كانت صرخاته لا تتجاوز صدىً بعيدًا.
⬅️ باقي القصة في الصفحة التالية رقم 2

تعليقات