عاد إلى منزله مبكرًا… فاكتشف الحقيقة التي كانت تُخفى عن ابنته الكفيفة
شعر روبرتو بالغثيان.
ليس بسبب الصوت نفسه، بل بسبب إدراكه أن هذا البيت، بيته، كان يدرّب فتاة صغيرة على الشعور بالذنب لمجرد وجودها.
عاد روبرتو إلى غرفة المعيشة ونظر إلى لورا بنظرة لم تعرفها منه من قبل؛ نظرة خالية من الإعجاب، خالية من التسامح، نظرة رجل يرى الحقيقة عارية للمرة الأولى.
حاولت لورا الاقتراب منه، مدت ذراعيها وكأن العناق قادر على محو ما سُمع، وما كُشف. قالت بصوت منخفض إنها كانت متعبة، مضغوطة، وإنها لم تكن تقصد ما قالت. وعدت بالتغيير، بالتحسن، وبأن تكون “أمًّا أفضل”.
لكن الكلمات كانت جوفاء.
وحين أدركت أن سحرها المعتاد لا يعمل، تغيّر صوتها فجأة. اشتدّ، وتصلّب، وتحوّل إلى تهديد صريح. أخبرته أن أي تصعيد سيحوّل الأمر إلى فضيحة إعلامية، وأن الصحافة لن ترحمه، وأن شركاءه سيتخلّون عنه واحدًا تلو الآخر، وأن اسمه، الذي بناه في سنوات طويلة، سيُسحق بلا رحمة.
في تلك اللحظة، فهم روبرتو جوهر المشكلة بوضوح مؤلم:
لورا لم تكن تحب ابنتها… كانت تحب الصورة، وتخشى فقط أن تنكسر.
احتدم النقاش، وارتفعت الأصوات، ومع كل كلمة قاسية كانت تُقال، كان جسد صوفيا ينكمش أكثر. بدأ تنفسها يتسارع، صدرها يعلو ويهبط بشكل غير منتظم، وراحت تبحث بيديها المرتجفتين عن الأريكة، عن الجدار، عن أي شيء ثابت تتشبث به في عالم بدأ ينهار من حولها.
اندفعت تيريزا نحوها دون تردد، جلست إلى جانبها، وضمتها بقوة، وضعت يدًا على ظهرها، والأخرى على رأسها، وهمست لها بهدوء ثابت:
«تنفّسي… أنا هنا… أنتِ بأمان».
كانت كلمات بسيطة، لكنها حملت من الطمأنينة ما عجز عنه القصر بأكمله.
راقب روبرتو المشهد، وشعر بشيء ينكسر داخله ببطء. أدرك أن المرأة التي تحمي طفلته ليست زوجته، بل مدبّرة المنزل التي لا تملك مالًا ولا نفوذًا، لكنها تملك قلبًا لم يساوم.
تقدّم نحو صوفيا، جثا أمامها، وأمسك يديها الصغيرتين بحذر، كأن لمسة خاطئة قد تزيد الألم. ناداها باسمها، بصوت خافت مرتجف. رفعت رأسها نحوه، وعيناها الفارغتان من الضوء كانتا ممتلئتين بالخوف.
قال لها بهدوء حاول أن يجعله ثابتًا:
«أنا هنا… ولن يؤذيك أحد بعد اليوم».
في تلك اللحظة، شعر بثقل سنوات من الغياب، لا غياب الجسد، بل غياب الرؤية. كم مرة كان حاضرًا في البيت، لكنه أعمى عن ما يجري؟ كم مرة صدّق المظاهر وترك ابنته تواجه القسوة وحدها؟
رفع رأسه ونظر إلى لورا للمرة الأخيرة. لم يكن في نظرته غضب فقط، بل حسم. حسم رجل أدرك أخيرًا أن الصمت شراكة، وأن التغاضي جريمة صامتة، وأن المال، مهما بلغ، لا يُصلح ما أفسدته القسوة المتراكمة عبر السنوات.
في تلك النظرة، انهارت كل الأعذار التي كان يختبئ خلفها. لم يعد قادرًا على إقناع نفسه بأنه لم يكن يعلم، أو أنه كان مشغولًا، أو أن الأمور لم تكن بهذا السوء. الحقيقة كانت واضحة الآن، جارحة، ولا تقبل التأجيل.
شعر، للمرة الأولى منذ زمن طويل، أن عليه أن يختار.
اختيارًا لا يحتمل المنطقة الرمادية، ولا يسمح بالمساومة.
إما الصورة…
أو ابنته.
إما المرأة التي أتقنت ارتداء الأقنعة أمام العالم،
أو الطفلة التي تعلّمت، في هذا البيت نفسه، كيف تخاف من صوت الخطوات.
نظر إلى صوفيا، التي كانت لا تزال متشبثة بتيريزا، صدرها يعلو ويهبط ببطء، وكأنها تتعلّم التنفس من جديد. رآها لا بعيني أبٍ غائب، بل بعيني رجل استفاق متأخرًا. رآها هشّة، خائفة، لكنها حيّة، وما زال في الوقت متّسع لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
اقترب خطوة أخرى، ثم أخرى، حتى أصبح صوته أقرب إليها من أي شيء آخر في الغرفة. قال بهدوء لم تعهده منه:
«لن تكوني وحدك بعد اليوم».
لم يكن وعدًا عابرًا، بل اعترافًا ضمنيًا بالذنب، وتعهدًا صامتًا بالتغيير.
أما لورا، فبقيت واقفة في مكانها، جامدة الملامح، كأنها لم تستوعب بعد أن سلطتها قد انتهت. حاولت أن تتكلم، أن تدافع، أن تفسّر، لكن الكلمات خانتها هذه المرة. فبعض الحقائق، حين تنكشف، لا تعود قابلة للتبرير.
شعر روبرتو بثقل القرار يهبط على كتفيه، لكنه لم يتراجع. كان يعلم أن ما سيأتي لن يكون سهلًا، وأن المواجهة ستكلفه الكثير؛ سمعة، وراحة، وربما حياة كاملة اعتادها. لكنه كان يعلم أيضًا أن الاستمرار كما كان يعني خسارة أكبر… خسارة لا تُعوَّض.
أدار ظهره للصورة التي عاش يحافظ عليها سنوات، وتقدّم نحو ابنته.
وفي تلك اللحظة، لم يعد رجل أعمال، ولا زوجًا، ولا صاحب قصر.
كان فقط أبًا…
قرر أخيرًا أن يرى.

تعليقات