غني تجاهل متسوّلة… لحد ما ابنه وقف وقال: بابا… هاي ماما!
لم يلتفت براين إلى دمية الأسد المحشوّة.
كان يلتفت إلى الأرقام.
إلى المواعيد النهائية.
إلى شكل الأسبوع القادم.
قال في سماعة أذنه وهما ينزلان درجات المدخل الأمامي:
— نعم، يوم الاثنين. أريد المستندات على مكتبي أولًا. يجب أن ينتهي الأمر قبل—
رفع ليو رأسه نحوه دون أن يقاطعه. كان قد تعلّم منذ وقت مبكر أن لصوت والده حالتين: حالة خاصة بقاعات الاجتماعات، وحالة لكل ما عدا ذلك. وكان صوت قاعة الاجتماعات هو الذي يحصل على معظم الهواء.
وصلا إلى الرصيف حيث خفَّ ضوء فندق بلاكستون، وتحولت المدينة إلى لون رمادي مائل إلى الأزرق مع برد الشتاء. تلاشى الضحك خلفهما. تسلّل الهواء البارد تحت أكمام معطف ليو كدعابة قاسية. تغيّر صوت خطواتهما حين صار الرصيف أخشن.
قاد براين الطريق نحو الشارع الجانبي حيث تنتظرهما السيارة. كان المكان هناك أهدأ، أكثر ظلمة، وبرك الماء تعكس أضواء نيون باهتة لمقهى مغلق.
تباطأت خطوات ليو.
كان هناك شيء يشدّه، لا كيدٍ تمسكه، بل كذكرى لها نبض.
ثم سمعه.
صوت خافت، يكاد يبتلعه الهواء وحركة المرور.
«أنت شمسي… أنت شمسي الوحيدة…»
لم يكن الصوت عاليًا، ولم يكن مضبوط النغمة تمامًا. لكن إيقاعه كان له شكلٌ يعرفه ليو، كما يعرف الطفل رائحة بطانيته المفضلة.
توقّف ليو.
على بعد أمتار قليلة، قرب واجهة متجرٍ مغلق، جلست امرأة منحنية بجوار عربة أطفال مستعملة. كان معطفها أكبر من مقاسها، مهترئًا عند الأكمام، وشعرها الأشقر باهتًا، مربوطًا بلا اكتراث، كأنها كفّت عن الاهتمام أين يستقر. كانت تهزّ العربة برفق، تهمس وتغنّي، وتُخفي ما بداخلها عن البرد.
اتّسعت عينا ليو.
لم يكن طفلًا.
كان دبدوبًا صغيرًا قديمًا، ملفوفًا ببطانية باهتة. كانت المرأة تمسّد رأسه البالي كما لو كان مصابًا بالحمّى، كما لو أنه قد يستيقظ باكيًا في أية لحظة.
شعر براين بمقاومة يد ليو.
ألقى نظرة جانبية. سجّلت المرأة في ذهنه بالطريقة نفسها التي يُسجَّل بها حفرة في الطريق: شيء
ينبغي تفاديه، شيء غير مريح، وليس من مسؤوليته.
قال بنبرة حادة، تلك النبرة السريعة التي يستخدمها الكبار حين يخافون من الرقة:
— لا تحدّق يا ليو. واصل المشي.
لم يتحرّك ليو.
استمرّ الغناء، وشفاه المرأة تشكّل الكلمات بلطف جعل الشارع البارد يبدو كغرفة نوم مضاءة بمصباح ليلي.
انقبض صدر ليو. لم يكن الصوت مألوفًا فقط، بل كان يحمل إيقاعًا دقيقًا، وهمسة معيّنة عند حرف «الش»، كأنها نهاية قبلة.
صوت من زمنٍ كان في حياته فيه والدان.
أدار ليو رأسه، ثم جسده كله، وأخذ يحدّق دون خجل. الأطفال نادرًا ما يشعرون بالحرج حين يكون الأمر مهمًا.
قال:
— أبي.
كان براين في منتصف جملة عن الجداول القانونية حين توقّف.
كان صوت ليو صغيرًا، لكنه سقط كحجر في ماءٍ ساكن.
— أبي، كررها ليو، وقد أصبح متيقنًا الآن. هذه أمي.
تجمّد براين.
للحظة، خفَّ ضجيج المدينة. شعر بالهواء البارد يصفع داخل رئتيه. جفّ فمه.
استدار ببطء.
كان وجه المرأة نصفه غارق في ظل مصباح شارعٍ يومض. لكن عيني براين مدرّبتان على التفاصيل. لقد بنى حياته على ملاحظة ما يفوته الآخرون.
انحدار فكّها.
لون شعرها الشاحب.
والخط الخفيف غير المنتظم على خدّها الأيمن… ندبة بدت كأنها كُتبت هناك بزجاج مكسور.
هوى معدته.
— لا، قالها بصوتٍ مسموع دون أن يقصد تمامًا. لم تكن الكلمة موجّهة إلى ليو، بل إلى الجزء منه الذي أراد للواقع أن يبقى مرتّبًا في ملفاته.
انحنى ليقابل نظر ابنه، وفرض الهدوء على وجهه كقناع.
— ليو، قال بلطف وحزم. أمك رحلت. أنت تعرف ذلك.
لم تتزعزع عينا ليو. كانتا عيني شخصٍ تذكّر الحب قبل أن يتذكّر المنطق.
— لم ترحل، همس. هي فقط لم تعد إلى البيت بعد.
ابتلع براين ريقه. ونظر من جديد إلى المرأة.
في تلك اللحظة بالذات، رفعت رأسها مرة واحدة. جالت عيناها في الشارع، ومرّتا على براين كما يمرّان على عمود إنارة أو سيارة متوقفة. لا تعرّف. لا شرارة. مجرد نظرة فارغة انزلقت بعيدًا.
شبح لا يتعرّف على حياته.
وقف براين بسرعة، كأن الحركة قد تطرد الشعور المتصاعد في داخله.
— هيا، قال بصوت مشدود. لنذهب.
لكن قدميه لم تتحركا.
ويده لم تشدّ ليو هذه المرة.
شيء صلب في داخله، شيء اعتمد عليه لسنوات، تصدّع بصوتٍ خافت لم يسمعه سواه.
باقي القصة في الصفحة التالية رقم 2![]()

تعليقات