ضحك عليها في البنك… ثم ظهر رقم جعل الجميع يصمت!
توقّفت ضحكة ريتشارد في حلقه.
انحنى نحو الشباك معتقدًا أن الأمر خطأ.
وقال متلعثمًا: «هذا غير ممكن. لا بدّ أن هناك خللًا… أصفار زائدة أو شيء من هذا القبيل».
لكن سارة هزّت رأسها، وأدارت الشاشة قليلًا لتراها إيفلين.
وقالت بثبات:
«لا يوجد أي خطأ يا سيدي، وهذا المبلغ بعد إضافة أرباح الفائدة لهذا اليوم».
أومأت إيفلين بهدوء وقالت:
«شكرًا لكِ يا ابنتي. هذا تقريبًا ما كنت أتوقعه. كان زوجي الراحل يقول دائمًا إن الفائدة المركّبة صديقة الصبورين».
سقط فكّ ريتشارد دهشة، وقال بصوت خافت:
«كيف… كيف حدث هذا؟».
التفتت إيفلين إليه تمامًا هذه المرة، وكانت عيناها تلمعان بحكمة هادئة.
قالت:
«يا بني، في خمسينيات القرن الماضي، كنت أنا وزوجي نعمل في الزراعة بالمشاركة. كنا نوفّر كل قرش، ونشدّ الحزام قدر المستطاع.
وفي عام 1962 اشترينا قطعة أرض صغيرة خارج مدينة تولسا، لم يكن أحد يريدها، وقالوا إنها بلا قيمة.
عشنا حياة بسيطة، ولم ننفق يومًا ما لا نحتاج إليه».
توقّفت لحظة، ثم تابعت:
«تبيّن لاحقًا أن تلك الأرض “العديمة القيمة” تقع فوق واحد من أكبر احتياطات النفط غير المستغلّة في أوكلاهوما.
في السبعينيات بدأت أعمال الحفر.
لم ننتقل إلى قصر، ولم نقتنِ سيارات فاخرة.
تركنا المال ينمو… بهدوء».
وأضافت بصوتٍ واثق لا يعرف التفاخر:
«ربّيتُ ثلاثة أبناء بجهدي وصبري، وحرصتُ على أن يتعلّموا قبل أن يعرفوا قيمة المال، فأرسلتهم جميعًا إلى الجامعات، لا ليصبحوا أثرياء، بل ليكونوا أحرارًا في عقولهم.
شاركتُ في بناء كنائس ومدارس في حيّنا، لأنني كنتُ أؤمن أن ما يُمنَح للمجتمع يعود يومًا إلى الإنسان نفسه، ولو بعد حين.
ومع ذلك، لم أغيّر حياتي، ولم أبحث عن مظهرٍ جديد أو لقبٍ لامع. ما زلت أرتدي الفساتين ذاتها، وأتسوّق من الأسواق نفسها، وأجيء إلى البنك بنفسي.
فالمال، يا بني، لا يصنع الإنسان، بل يكشف حقيقته حين تتعرّى الأقنعة».
وقف ريتشارد محمرّ الوجه، وقد انكمش صوته في صدره، وعجز لسانه عن إيجاد أي كلمة تليق بالموقف.
اختفت تلك الابتسامة المتغطرسة التي دخل بها، وتبدّلت نظراته من استعلاء إلى ارتباك، ثم إلى صمتٍ ثقيل لم يعرف له مخرجًا.
في المقابل، كانت إيفلين هادئة كما لو أن شيئًا لم يحدث.
جمعت إيصالها بيدٍ ثابتة، وربتت على يد سارة برفقٍ أمومي، فبدت الصرّافة الشابة وكأنها تتعلّم درسًا سيبقى معها طوال حياتها المهنية.
اتجهت إيفلين نحو الباب بخطوات بطيئة، لكن واثقة.
وحين مرّت بجانب ريتشارد، توقّفت لحظة قصيرة، لا لتُحرجه، بل لتضع حدًّا صامتًا للمشهد كله، وقالت بنبرة خالية من القسوة:
«لا تحكم على كتاب من غلافه يا بني. بعض أغنى الناس هم أولئك الذين لا يشعرون بحاجةٍ لإثبات ذلك لأحد».
ثم تابعت طريقها، وصوت عصاها الخشبية يطرق أرضية الرخام بإيقاعٍ منتظم، كأنه توقيع أخير على درسٍ لم يُلقَ في أي جامعة.
وبقي البنك بأكمله في صمتٍ مذهول، صمتٍ لم يكن سببه الرقم الذي ظهر على الشاشة، بل الحكمة التي ظهرت في تلك اللحظات.
منذ ذلك اليوم، لم يُسمَع صوت ريتشارد مرتفعًا في ذلك البنك مرة أخرى.
لم يعد يتباهى، ولم يعد يستخفّ بأحد، وكأن الموقف قد جرّده من وهمٍ ظلّ يعيش فيه طويلًا.
وسرعان ما انتشر الخبر في أروقة المدينة:
أصبحت السيدة إيفلين طومسون واحدة من أكبر الداعمين للأعمال الخيرية المرتبطة بالبنك، تموّل منحًا دراسية للأطفال المحرومين، وتساهم في ترميم الكنائس التاريخية للسود، وتؤسّس برامج لرعاية كبار السن الذين لا يملكون صوتًا ولا سندًا.
ومع كل ذلك، لم تتغيّر إيفلين.
ما زالت تقود سيارتها القديمة من طراز «بويك»،
وما زالت ترتدي فساتينها الزهرية البسيطة،
وما زالت ترفض أن يرافقها أحد إلى البنك.
وفي كل يوم جمعة، كانت تدخل بهدوء، تصطف في الطابور مثل الجميع، ثم تبتسم للصراف وتقول الجملة نفسها:
«أريد فقط الاطلاع على رصيدي».
لا بدافع القلق، ولا حبًّا في الأرقام،
بل تذكيرًا لنفسها—ولمن يراها—بأن الثروة الحقيقية لا تُقاس بما نملكه،
بل بما نختاره أن نكونه.
فالثروة ليست في استعراض المال،
ولا في إذلال الآخرين به،
بل في بنائه بصبر،
وحفظه بحكمة،
واستخدامه بقلبٍ حيّ يعرف متى يعطي… ومتى يبتسم ويمضي.

تعليقات