سبع سنوات من العمى والوحدة… طفلة واحدة فعلت ما عجز عنه العالم كله
منذ سبع سنوات كانت كل الليالي متشابهة في حياة إدواردو مونتيرو رجل الأعمال الكفيف الذي حول حياته إلى رقصة دقيقة من خطوات محسوبة وصمت مدروس.
كان يستيقظ في السادسة تماما لا لأنه يرغب في ذلك بل لأن جسده حفظ الروتين كما يحفظ الإنسان موقع مخرج الطوارئ في مبنى مظلم. كان يمد يده اليمنى مسافة اثنين وأربعين سنتيمترا بالضبط نحو الطاولة الجانبية يعثر على المنبه يطفئه ثم يعود ليغرق في ذلك الصمت الثقيل المألوف.
يضع قدميه الحافيتين على الرخام البارد يعد اثنتي عشرة خطوة حتى الحمام ينعطف يسارا ثم ثلاث خطوات أخرى حتى المغسلة. كل شيء مضبوط بدقة متناهية حتى لا يفاجئه أي تفصيل.
كان يعتقد أن من لا يرى لا تكون الفوضى بالنسبة له إزعاجا منزليا بسيطا بل خطرا حقيقيا قادرا على تحويل فنجان في غير موضعه إلى سقطة أو كسر.
خلال النهار ومن شقة علوية في ساو باولو لم يرها يوما بعينيه كان يدير شركة تقنية متخصصة في الأمن الرقمي ويوقع عقودا بأرقام خيالية. كان يتحدث مع صناديق استثمار من نيويورك وموردين من طوكيو وعملاء من برلين بينما كانت برامجه تحمي بيانات ملايين الأشخاص الذين لن يعرفوا اسمه ولا قصته.
كان صوت قارئ الشاشة المعدني هو سكرتيرته الأساسية ورسومه البيانية تعيش مترجمة إلى أعمدة من الأرقام وجدوله الزمني يعتمد على تذكيرات صوتية لا تخطئ أبدا.
بالنسبة للصحافة الاقتصادية كان إدواردو مونتيرو مثالا لرجل الأعمال الذي حول المحنة إلى انضباط صارم والعمى إلى علامة صمود تثير الإعجاب.
لكن ما كانت تلك المقالات اللامعة تتجاهله دائما هو الوجه الآخر لنجاحه كان يتعشى كل ليلة وحيدا على طاولة صممت لاثني عشر شخصا أمام أطباق لا يعلق عليها أحد.
في التاسعة تماما كانت الطاهية تضع الطبق الرئيسي وتصف بصوت مرتفع مكان الشوكة والسكين والكأس ثم تخرج حافية القدمين ليعرف أنه لم يبق أحد في المكان.
كان شركاؤه يظنون أنه يفضل الوحدة بدافع الغرابة وكانت عائلته تفترض أنه لا يحتاج إلى رفقة أما جيران المبنى الفاخر فلم يكونوا يعلمون سوى أن شخصا ما يعيش خلف ذلك الباب.
بدأ ذلك الروتين يتصدع في مساء ماطر حين تسللت ضحكة طفولية عبر ممر الخدمة وسط صوت غسالة الصحون والضجيج البعيد لحركة المرور.
كانت آنا كلارا ابنة روزا ذات التسع سنوات عاملة التنظيف في المبنى. في تلك الأسبوع لم تجد من يعتني بها فطلبت إذنا لإحضارها معها أثناء الوردية الليلية.
كان نظام المبنى يمنع ذلك منعا صريحا لكن المدير تغاضى عندما رأى جدية الطفلة وهي تعد بألا تلمس شيئا وأن تبقى هادئة تقرأ.
سمع إدواردو همهمة الشرح في المطبخ ورد بلباقته الباردة المعتادة دون أن يدرك أن ذلك الصوت الحاد كان على وشك أن يعيد كتابة لياليه.
في المرة الأولى التي أطلت فيها آنا كلارا على غرفة الطعام تجمدت في مكانها أمام الطاولة الضخمة والكؤوس المصطفة والرجل الذي كان يأكل وحيدا عند أحد أطرافها كأنه معاقب.
قالت بصوت عال أمي هل يعقل أن يتعشى أحد هنا وحده كل يوم
لم تنتبه إلى أن كلماتها وصلت بوضوح إلى أذني رجل اعتاد الإصغاء بدقة.
لم يقل إدواردو شيئا حينها لكن العبارة التصقت به كملصق غير مرئي ظل يرددها في ذهنه كلما سمع صدى أدواته.
في اليوم التالي مرت الطفلة مجددا عند باب غرفة الطعام. كانت خطواتها خفيفة مترددة قليلا كأنها تختبر حدود مكان لا يشبه غرفتها ولا عالمها الصغير. وقبل أن تتمكن روزا من إيقافها أو تذكيرها بقواعد الصمت غير المكتوبة في ذلك البيت قالت بصوت بسيط خال من أي تكلف
مساء الخير سيد إدواردو.
لم يكن الصوت عاليا ولم يحمل جرأة مقصودة لكنه كان كافيا ليشق طبقات من الصمت تراكمت عبر سنوات. صمت لم يكن ناتجا عن الوحدة فقط بل عن اعتيادها وعن قبولها كجزء من النظام اليومي.
توقف إدواردو قليلا رفع رأسه في اتجاه الصوت ثم أجاب بهدوء غير متوقع
مساء الخير يا آنا.
تجمدت روزا في مكانها. لم يكن في الأمر مجرد رد بل كان في النداء بالاسم شيء أكبر. شيء أربكها. لم يكن أحد في المبنى يعلم أن الرجل الذي تكتب عنه التقارير الاقتصادية والذي تذكر أرقامه في الصفحات
—
الأولى يحفظ أسماء من لا يظهرون في العقود ولا في الاجتماعات.
منذ تلك الليلة لم يعد السلام عابرا. صار بداية لشيء آخر.
📌 باقي القصة في الصفحة التالية رقم (2)…
ما الذي حدث في أول عشاء لم يجلس فيه إدواردو وحيدًا؟

تعليقات