ربّيتُه كابني… وبعد 12 سنة اكتشفتُ السر الذي كان يُخفيه عني
كنتُ أظنّ يومًا أن العائلة هي ما نُولد فيه:
دمٌ واحد، اسم عائلة مشترك، ووجوهٌ تشبه وجوهنا في ألبومات الصور القديمة.
كنتُ مخطئًا.
العائلة هي من يبقى حين ينهار العالم.
وأعرف ذلك جيدًا… لأنني نشأتُ من دون عائلة.
قضيتُ طفولتي في دارٍ للأيتام؛ جدران رمادية، أسرّة حديدية، وأعياد ميلاد تُنسى بالسرعة نفسها التي تأتي بها. تعلّمتُ باكرًا ألّا أتوقّع شيئًا من أحد. الحب مؤقّت. والناس يرحلون. تلك كانت القاعدة.
إلّا نورا.
تعرّفنا ونحن أطفال، كلٌّ منّا أُلقي في النظام نفسه بسبب مأساة مختلفة. كانت قويّة، سليطة اللسان، ووفية إلى حدٍّ لا يُصدَّق. حين كنتُ أبكي ليلًا، كانت تجلس بجوار سريري وتهمس بالنكات حتى أضحك. وحين كان المتنمّرون يحاصرونني، كانت تقف أمامي كدرع.
كانت تقول دائمًا:
«نحن فريق. نحن ضدّ كل شيء».
حتى عندما كبرنا وانتقلنا إلى مدنٍ مختلفة، لم تنقطع تلك الرابطة. كانت الشخص الوحيد الذي يعرفني حقًا. حضرت زفافي. وأمسكتُ يدها حين علمت أنها حامل.
لم تخبرني يومًا من هو الأب. مرّة واحدة فقط قالت بهدوء:
«لن يكون جزءًا من هذا. لقد… رحل».
قبل اثني عشر عامًا، رنّ هاتفي عند الفجر.
رقم مستشفى.
قبل أن يُكملوا الجملة، كانت ساقاي قد خذلتاني.
حادث سير. وفاة فورية. بلا ألم.
ابنها نجا.
قدتُ لساعات في صمتٍ مطبق، أقبض على المقود بقوة حتى خَدِرت يداي.
كان ليو جالسًا على سرير المستشفى حين وصلت—في الثانية من عمره، بشعرٍ أحمر، وعينين واسعتين تبحثان. لم يبكِ. كان يحدّق في الباب، ينتظر عودة أمه.
لكنها لم تعد.
لم تكن هناك عائلة. لا أجداد. لا أحد آخر.
أتذكّر أنني أمسكتُ يده الصغيرة، وشعرتُ بشيءٍ يستقرّ عميقًا في صدري. يقين لم أعرفه من قبل.
وقّعتُ أوراق التبنّي في اليوم نفسه.
قال لي الناس إنني أتعجّل. إنني أحتاج وقتًا لأفكّر.
لكنني كنتُ قد عشتُ حياةً كاملة لم يخترني فيها أحد.
ولن أسمح له أن يشعر بذلك أبدًا.
كانت السنوات الأولى صعبة. كان يستيقظ صارخًا باسم أمه. كنتُ أنام على الأرض بجوار سريره. بكينا معًا أكثر من مرة. لكن شيئًا فشيئًا، لان الألم.
بنينا عاداتنا: فطائر صباح الأحد، القراءة قبل النوم، التشابك بالأيدي في الأماكن المزدحمة.
ناداني «أبي» قبل أن يتمّ الثالثة من عمره.
مرّت اثنتا عشرة سنة كأنها رمشة عين.
كبر ليو وصار فتىً ذكيًا، لطيفًا، فضوليًا، من النوع الذي يفتح الأبواب للآخرين دون تفكير، ويعتذر إذا اصطدم به أحد.
كان عالمي كلّه.
ثم دخلت أميليا حياتنا.
كانت دافئة على نحوٍ صادق، لا لطفًا مصطنعًا ولا مجاملة. تضحك بسهولة. أحبّها ليو منذ البداية. حين انتقلت للعيش معنا، لم تحاول أن تحلّ محلّ أحد. كانت فقط حاضرة. تساعده في واجباته، تتعلّم
أطعمتَه المفضّلة، تجلس بجواره في مباريات كرة القدم.
عندما تزوّجنا، ظننتُ—أخيرًا—أن هذا هو معنى الأمان.
لكن ذلك الوهم تحطّم عند منتصف الليل.
نمتُ مبكرًا تلك الليلة، منهكًا من العمل. لا أذكر حلمًا. فقط ظلامًا.
ثم اهتزازًا.
قويًا.
فتحتُ عينيّ لأرى أميليا واقفة فوقي. كان وجهها شاحبًا، أنفاسها غير منتظمة، والعرق يبلّل منابت
شعرها.
كانت تمسك شيئًا بيدها.
قالت بصوتٍ مرتجف:
«أوليفر… يجب أن تستيقظ الآن».
خفق قلبي بعنف.
«ما الأمر؟»
جلست على حافة السرير، ويداها ترتعشان.
قالت: «وجدتُ شيئًا. شيئًا كان ليو يُخفيه عنك منذ سنوات».
جلستُ.
«عمّ تتحدثين؟»
انكسر صوتها: «لا يمكننا الاحتفاظ به. يجب أن نتخلّى عنه».
لم تكن الكلمات منطقية.
ثم ناولتني ما كانت تمسكه.
دفتر صغير مهترئ، وداخلَه ظرف مطوي.
ارتجفت يداي وأنا أفتحه.
كانت هناك رسومات. صفحات كثيرة. خطّ طفل يكبر ويزداد انتظامًا مع السنين.
رسومات لي وليو ونحن نمسك بأيدي بعضنا. أنا أعلّمه ركوب الدراجة. نجلس معًا على الأريكة.
ثم كلمات.
«أعرف أن أبي ليس أبي الحقيقي.
سمعته يبكي مرة.
أنا لا أشبهه.
أظن أن أبي الحقيقي ما زال حيًّا».
انقبض صدري.
كان في الظرف رسالة.
رسالة ليو.
مكتوبة بعناية وبطء.
«إن وجدتَ هذه الرسالة، فهذا يعني أنني شجاع بما يكفي لأقول الحقيقة.
وجدتُ أشياء أمي القديمة. كان هناك اسم في ورقة. بحثتُ عنه.
لم يمت.
لم أرد أن أؤذيك.
أنت اخترتني، حتى حين لم يكن عليك أن تفعل.
وإن جاء يومٌ والتقيته، أريدك أن تعرف:
أنت أبي الحقيقي».
لم أستطع التنفّس.
غشّت الدموع الكلمات حتى اختفت.
كانت أميليا تبكي هي الأخرى.
قالت: «ظننتُ… ظننتُ أنه يخطّط للرحيل، أو أن أحدًا سيأخذه».
👇 باقي القصة في الصفحة التالية رقم 2…
واللحظة التي واجهتُ فيها ابني بعدها ستبقى محفورة في قلبي ما حييت.

تعليقات